استوقفتني مقولة أعرابيٍّ، سألوه عن وطنه، فقال: ” رمْلةٌ كنت جنين رُكامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها”.
وهكذا أنا من وطني الأردن الذي كان لي أرض المنبت والمنشأ، وكل ما فيه قد خلّف أثرًا في حنايا قلبي، كنت كمن قال فيهم جالينُوس: يتروّح العَليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحبة ببلِّ القطْر.
غير أن الوطن في وعيي كان أسير الجغرافيا وخِيام القبيلة والتلال الخضراء ومرعى عنزة الخالة وصخب العاصمة والوجوه المتشابهة ولَكْنَةِ المجموع .
أما وقد ودّعت عهد الصبا، وتركتُ عقلي سابحًا في نصوص الوحيين، فاقتبست من أنوارهما ما أضاء لي السبيل، فاتسع مفهوم الوطن، ليشمل كل أرضٍ يشقُّ سماءَها الأذانُ، ويُغبِّر تُرابُها جِباهَ الساجدين، ويلهج فيها الجمع بلا إله إلا الله، فبقي الحب واعتدَلَ المفهوم.
وهاأنذا اليوم تزيد مفاخري، بعد أن أكرم الإخوة الأتراك وِفادتي وفتحوا لي قلوبهم وأبوابهم، ومنحوني الجنسية التركية، ولئن قيّدَتْ الأوراق جنسيتي في البلدين، فقد أطلقها ديني، حيث أن جنسيتي الحقيقية ” أني مسلمة “.
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
سعدتُ بالحصول على الجنسية التركية، لأنني حقًا أنتمي لهؤلاء القوم، ورثة إمبراطورية إسلامية عظيمة، انصهرت فيها القوميات والأعراق، وقدّمت للأمة الكثير.
أحب الأتراك لما لمسته فيهم من الوفاء لوطنهم، هُم كما قال قتيبة بن مسلم عن التُرك: “هم والله أحنُّ من الإبل المُعقَّلة إلى أوطانها”.
شعبٌ جلِدٌ قوي النفس، ربما كان الجاحظ مُحِقّاً حينما وصف الترك قديما بقوله: “وأصل بنيتهم إنما وُضِع على الحركة، وليس للسكون فيها نصيب، وفي قُوى أنفسهم فضلٌ على قوى أبدانهم، وهم أصحاب توقُّد وحرارة، واشتغال وفطنة، كثيرةٌ خواطرهم، سريعٌ لحْظُهم، وكان يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلادة، والراحة عقلة، والقناعة من قصر الهمة؛ وأن ترك الغزو يورث الذلة”.
وأحمد الله أن هذه النظرة للأتراك تفيض بها كتاباتي منذ زمنٍ بعيد، وإلا كنت في مرمى الاتهام بالتملُّق والتزلُّف، ولكن أعظم أسباب فرحتي بذلك التشريف، أنه قد أتاح لي كمواطنة تركية الانتظام في ذلك المشروع الكبير الذي يُمثل لي أبواب الأمل، وهل أجمل او أكمل من فرصة المشاركة في صناعة نهضة دولة إسلامية ولو بجُهد المُقِل، تكون لي ذخرًا يوم المعاد، وفخرا بين العباد.
رحلة طويلة ارتبط فيها قلمي بالقضايا التركية منذ عرفت طريق الكتابة والحروف في موطني الأردن، بعد أن استشرفت مجدًا عثمانيا معاصرًا في ظل وجود أردوغان ورفاقه، وخلافا للأنظمة والحكومات العربية التي تقلّب فيها موقفي وفقا للمستجدات، منحني الاستقرار وثبات المبادئ في المسيرة التركية موقفًا ثابتًا يوازيها، ولا أذكر على وجه التعيين كل ما كتبت في الشأن التركي.
أخذت على عاتقي مهمة الدفاع عن التاريخ العثماني الذي شوّهته النعرات القومية العربية منها والتركية، فاستعنت بالله وكتبت “الدولة العثمانية ودعوى التستر بالإسلام” وهي تهمة طالما روج لها المغرضون، فقد كتب أحد مستشاري الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يترأس الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، في الميثاق الصادر 21/5/1962، عن فتوحات الدولة العثمانية، أنها كانت “استعمارا مقنعا باسم الدين ، والدين منه براء”، ولكن يكفي في رد هذه الفرية أن أوروبا كانت تطلق على كل من يدخل الإسلام بأنه قد غَدَا عثمانيًا لارتباط الدولة بالإسلام، فضلًا عن حماية العثمانيين العالم الإسلامي من خطر البرتغاليين والصفويين، وعنايتهم الشديدة بالحرمين الشريفين.
وكانت “أزمة الأرمن...سحابة صيف في سماء تركيا” أدفع بها عن العثمانيين تهمة ارتكاب المذابح بحق الأرمن، وبيّنت الحقيقة التي تم ذبحها عمدًا، وأبرزت جرائم الأرمن في دعم الروس شرقي الأناضول، وارتكابهم المجازر بحق المناطق العثمانية التي احتلوها، وتناولت جمعيتي “الهانشاك” و”الطاشناق” الإرهابيتين التابعتين للأرمن، حيث قامت عناصرهما بأعمال إرهابية شملت تفجيرات في إسطنبول ومحاولة فاشلة لاغتيال السلطان العثماني، وتحدثت عن 47 ألف قتيل عثماني على يد الأرمن في قارص في أوائل القرن العشرين بوثائق موجودة في الأرشيف العثماني، إضافة للمئات من المقابر الجماعية المُكتشفة التي قُتل أصحابها على يد الأرمن، ولم يفتْنِي أن أتطرق للتجاوزات الفردية للضباط العثمانيين بشأن الأرمن، وظروف الحرب وقطاع الطرق والأوبئة التي حالت دون تنفيذ العثمانيين خطط الاحتياجات الإنسانية للمُهجّرين.
وحول النظام العالمي الجديد الذي أكد عليه كسينجر في أنه سيقوم بالشراكة بين أمريكا والصين، كتبت عن النظام العالمي بين الدولة العثمانية وأحلام كسينجر، وهي مقارنة ظالمة، عبّر عنها المؤرخ التركي أوزتونا بقوله: “النظام العالمي العثماني لم يستهدف يوما إنكار كيان أي قومية مهما صغرت، ولم يعمل أو يفكر في محوها، بل على العكس من ذلك، كان نظاما حريصا على أن يجعل من هذه القوميات تحت مظلته قوى فاعلة ومشاركة في صنع السياسة والمدنية العثمانية”.
ويا لروعة صور الماضي حين تُستدعى إلى الحاضر، وكثيرة هي الصور التي استدعيتها من التاريخ العثماني، كان أبرزها السلطان محمد الفاتح عندما نقل السفن عبر الرمال إلى مياه القرن الذهبي، فكانت مقالتي “عندما أبحرت السفن في الرمال”، وأتبعتها بـ “فاتح القسطنطينية..الصفحة الأخيرة” فكّكتُ فيها تلك الوصية الذهبية للفاتح لحظات موته.
يشهد الله، بأني أكتب الآن بمشاعر بعيدة عن الزهو ورؤية الذات، بل أكتب حامدة شاكرة مُقرّة بفضل الله عليّ وتوفيقه أن سخّر قلمي لنصرة الحق، ولكم أن تملُّوا، لكني لا أمَلُّ وأنا أتحدث عما سطّره قلمي عن كل ما يتعلق في الشأن التركي.
عن التقارب بين العرب والأتراك وعودة تركيا إلى أحضان العالم الإسلامي…..
عن جذور أردوغان التي جعلت من البعض يسميه بالشيخ، وبعضهم يتهكّم بلفظ الدرويش.، وعن كيفية تعامله مع الديموقراطية، وعن شقّيِ الزعامة والإنسانية في شخصيته…….
عن فتح الله كولن الذي يتزعم الكيان الموازي وتوجّهاته وتعامل القيادة التركية مع مؤامراته……
عن ذلك اليوم الذي أمطرت فيه سماء إسطنبول إبّان تولي أردوغان منصب عمدة اسطنبول وإنجازاته التي مهدت لحمله على الأعناق فيما بعد……..
عن رحلة الزعيم التركي من السجن إلى القصر، إذْ سُجن بأبيات شعر ذات صبغة إسلامية، فدخل محنة يوسفية خرج بعدها أكثر وعيًا وأشد صلابة……..
عن حزب العدالة والتنمية وكل الاستحقاقات التي خاضها، كتبت فيها ما يرضي ربي ثم ضمير قلمي………
عن القوة الناعمة التركية التي أثّرت في الدول العربية وكيف تغيرت نظرة العرب إلى الأتراك…….
عن الدراما التركية، عن قيامة أرطغرل المسلسل الذي كتبت عنه مرارًا حيث غزا قلب كل مسلم وعربي فضلا عن الأتراك، وسدّ الفراغ الموجود الذي يفتقد إلى دراما هادفة تُعبر عن القيم الإسلامية بعيدا عن الخلاعة والإسفاف………
عن أحمد داود أوغلو الرجل الهمام الشريف، دافعت عنه حينما اتهمه المُغرضون بتدنيس الحرم بسبب الهتافات التركية المؤيدة له داخل الحرم، وكتبت عن الوجه الحضاري لخلافه مع أردوغان……..
عن القاعدة التركية في قطر والذعر غير المُبرر الذي أصيب به الكثيرون، والغيظ الذي بدا في كلمات من أثار حنقَهم الدعمُ التركي لقطر في محنة الحصار……….
عن الانقلاب الفاشل الذي ضرب الجمهورية التركية وعن تلك الملحمة التي تكاتفت فيها القيادة والشعب من أجل إحباط ذلك الانقلاب، وعن استحالة تكراره لعوامل كثيرة أهمها وعْي الشعب التركي وتشبُّعه بالمشاعر الوطنية بعد إسقاطه الانقلاب………
عن العلمانية في تركيا والجدل الثائر حول هوية أردوغان ورجاله، وعن مدى نجاح العلمانية في فصل الأتراك عن دينهم………….
عن عملية غصن الزيتون التي كانت خطوة جريئة قوية للقيادة والجيش لمنع قيام دولة كردية في الشمال السوري تُهدد الأمن القومي التركي…….
عن الانتخابات المُبكرة التي أرادت بها القيادة التركية إنقاذ الاقتصاد والاستمرار في مسيرة الحفاظ على الأمن التركي……….
لقد تهتُ بين مقالاتي عن تركيا التي لم أعد أستطيع حصرها، وبين الأفلام الوثائقية التي أنتجتها بجهود المخلصين الذين دعموني احتسابا، وبين التقارير التي سطّرتها في كَنَفِ صرح وكالة الأناضول التي أكرمتني بالعمل في قسمها العربي.
وعلم الله أنني لا أكتب هذه السطور من باب التفاخر والمنّ، وإنما أصدقُ تشبيه يُجسد حالتي، أنني قطعتُ مسافة طويلة ركضًا، وهاأنذا أجلس متعبة، تتلاحق أنفاسي، أتفصّدُ عرقًا، وأنظر إلى آثار الرمال ضاحكة مستبشرة، أرسل بباقات الشكر إلى إخوتي الأتراك الذين أكرموني، وباقات مُماثلة لإخوة لي في الدين، أوصوا بي (هنا ) خيرًا.
لم أكتب كل ما كتبت وأنا يخطر ببالي أن أكون يومًا مواطنة تركية، ولكن هل كان ذلك الجهد يستحق أن أُمنح به الجنسية التركية؟
حقيقةً لا أدري، لكن ما أعرفه إن كان للرواية بطل، فبطلها هو ذلك الاستثناء الذي أتى بجَرِّةِ قلمٍ من كبير قومه ( أعزّه الله ) …
ترك برس