من يمشي في شوارع إسطنبول وباﻷخص حي الفاتح، يرى لافتات معلقة تذكر بالغازي عثمان باشا. وتمتلئ المدن والبلدات التركية بأماكن مُسمّاة باسمه. وقد أحيا الأتراك منذ أيام الذكرى 118 لوفاته. فمن هو؟ وماذا فعل حتى لا ينساه الشعب التركي؟
ولد عثمان نوري باشا في مدينة توكات وسط اﻷناضول بعام 1832، وهو من عائلة ياغجي أوغولاري المرموقة. كان أبوه موظفا حكوميا في مدينته، وبعد ولادة عثمان بمدة قصيرة تم تعيين أبيه في منصب في العاصمة العثمانية، وانتقلت اﻷسرة إلى إسطنبول.
درس عثمان في إسطنبول حيث تخرج من الكلية الحربية في عام 1852، وأظهر تميزا في حرب القرم بعد التحاقه بسلاح الفرسان مما أدى إلى ترقيه في الرتب سريعا.
دارت رحى حرب القرم ما بين 1853 و1856 بين الدولة العثمانية والروس، فبقي عثمان هناك أربع سنوات ارتقى فيها إلى رتبة ملازم، وتدرج في الرتب العسكرية حتى وصل في نهاية الحرب إلى رتبة نقيب.
تعامل عثمان بحنكة مع المتمردين الكريتيين في عام 1861، وتوجه إلى اليمن في عام 1863 لحل مشاكلها وعاد منها وهو يحمل لقب باشا. وتم تعيينه قائدا عسكريا على سنجق سكوتاري (شكودر) في ولاية البوسنة، وبعد نجاحه في إخماد التمرد البلغاري عام 1876 مُنِحَ رتبة مشير.
ملحمة بليفنا
في 24 نيسان/ إبريل 1877، بدأت جيوش الحلفاء بالزحف، فأرسلت روسيا 20 ألف مقاتل بقيادة الدوق نيكولاس، نحو نهر الدانوب متجهين إلى مدينة نيقوبوليس جنوب بلغاريا. وعندما علم السلطان عبد الحميد الثاني بذلك، أرسل سريعا 11 ألف مقاتل بقيادة المشير عثمان باشا، الذي بلغ من العمر 45 عاما، ﻹنقاذ المدينة.
سقطت المدينة قبل وصول الجيش العثماني إليها. وعندما وصل الخبر لعثمان باشا، اتجه بقواته إلى مدينة بليفنا لصد الهجوم عنها، فهي المدينة التالية بعد نيقوبوليس، وليتحصن بها كذلك. وفي 19 تموز/ يوليو،وصل الروس لمدينة بليفنا وأمر قائدهم الجنرال شولدنر المدفعجية بالقصف، وبعد ساعات أمر جنوده بالهجوم ليستولوا على الخنادق اﻷمامية.
أرسل عثمان باشا تعزيزات لدعم الخطوط اﻷمامية، وتمكن من استرجاع الخنادق، وقتل من الروس 3000 رجل ومن العثمانيين 2000 شهيد. ووصل فيلق روسي بقيادة اﻷمير كارول الروماني، فأصبحت قوات الحلفاء 35 ألف مقاتل و176 مدفعا، وأرسل السلطان العثماني قوات داعمة لعثمان باشا، لتصل قواته إلى 22 ألف مقاتل و58 مدفعا.
وفي يوم 31 تموز، هجمت قوات الحلفاء من ثلاث جهات، الفرسان من الجانبين والمشاة من العمق، وكان عثمان باشا على فرسه يُحرّض مقاتليه على الصمود، إلى أن استطاع أن يصد الهجوم. وبلغ عدد قتلى الحلفاء 7300 قتيل و2000 شهيد عثماني،فأصدر السلطان عبد الحميد فرمانا خاصا بالثناء على عثمان باشا.
وبعد نحو شهر، شنت فرقة فرسان أشبه بفرقة انتحارية هجوما مفاجئا على جيش الحلفاء، بتنظيم من عثمان باشا. تفاجأ الحلفاء بهم، إلا انهم استطاعوا أن يصدوا الهجوم، وبلغت خسائرهم 1300 قتيل واستشهد من العثمانيين 1000 شهيد.
وصلت تعزيزات إلى الحلفاء بلغ تعدادها 45 ألف مقاتل بقيادة الجنرال الروماني ألكساندرو، و80 ألف مقاتل على رأسهم القيصر الروسي ألكسندر الثاني ليدعم جنده، وبذلك بلغ عدد جيش الحلفاء 150 ألف مقاتل.
تأزم الوضع على عثمان باشا ومن معه، فأرسل السلطان عبد الحميد إليه 13 كتيبة، ليصل عدد قواته إلى 48 ألف مقاتل، ولم يستطع الدعم بأكثر من ذلك، ﻷنه كان عليه أن يمد جبهات قتال أخرى أسوأ حالا من بليفنا.
شن الحلفاء هجوما في 11 أيلول/ سبتمبر، ونظرا لعدم تكافؤ تعداد الجيوش تعرض العثمانيون لضغط شديد، فخسر عثمان باشا عددا من الخنادق والمقرات الدفاعية، ما اضطره إلى التراجع. استمر الهجوم عدة أيام، وحاول عثمان باشا استرداد ما فقد بهجمات مضادة، ولصعوبة الوضع لم يستطع أن يسترده كله، واستشهد 8000 عثماني وقُتِلَ للحلفاء 20 ألف قتيل.
ولكثرة الخسائر، توقف القتال وعاد القيصر إلى روسيا، وأرسل الجنرال إدوارد تودلين ليقود المعركة، الذي أمر بحصار المدينة فور وصوله إلى بليفنا.
طوّق جند الحلفاء المدينة من الجهات اﻷربع وبدؤوا بقصفها من كل الجهات. وقبل أن يتم التطويق أرسل عثمان باشا، وقد علم باﻷمر، إلى السلطان يُعلِمه بتأزم الوضع و يطلب السماح له ولجنده بالتراجع وترك بليفنا ﻹعادة تجهيز المقاتلين وترتيب الصفوف ومداواة الجرحى ثم معاودة القتال.
رفض السلطان طلبه وحثّهم على القتال والصبر، وتوقفت كل اﻹمدادات عن العثمانيين المحاصرين، واستمر القصف عدة أيام وسقط الكثير من الشهداء، وخسر عثمان باشا الكثير من الخنادق وتراجع كثيرا، وأيقن أن الجيش سيهزم.
فعزم الغازي عثمان باشا على الهجوم الكامل، فإما أن يكسر الحصار وينتصر وإما أن يستشهدوا. وفي ليلة 9 ديسمبر، صاح عثمان باشا وهو على فرسه “بسم الله الرحمن الرحيم” فخرج جنده من الختادق ومن خلف أكياس الرمل ومن الحفر ومن كل مكان.
وركضو جميعهم نحو جيش الحلفاء، فتفاجأ خطهم اﻷمامي وبدأ بإطلاق النار، وتمكن العثمانيون من الاستيلاء على خطهم وأداروا مدافعهم باتجاههم وقصفوهم، وعثمان باشا يتقدم جنده.
وأطلق الخط الثاني النار عليهم، وكسروا لكثافة الهجوم ولاح النصر للعثمانيين، وجاءت المساندة من كل الجهات إلى الجهة التي خرج منها عثمان باشا.
واقتحم عثمان باشا الخط الثالث، وجاء اﻷمير كارول ومن معه لصد الهجوم، وتكاثر جند الحلفاء على العثمانيين، وأصيب عثمان باشا في قدمه وقتلت فرسه وشاع مقتله. فبدأ جنده بالتراجع إلى المدينة، ووجدوا الحلفاء بانتظارهم، فاضطر عثمان باشا لتسليم نفسه ﻹنهاء المعركة،التي دامت 143 يوما، وانتصر الحلفاء.
وقتل في هذا الهجوم اﻷخير 5000 قتيل واستشهد 2000 عثماني، وهنّأ قادة جيش الحلفاء عثمان باشا على دفاعه المُشرّف، ورفض عثمان باشا مصافحة قائد الحلفاء، وعومل باحترام مقابل بطولته المشرفة في الدفاع عن وطنه.
وانتشرت مقاومته في كل أوروبا، وتم إرساله إلى روسيا حيث استقبله القيصر في قصره، وقال له كلمات حفظها التاريخ إلى يومنا هذا:
“أهنئك على دفاعك الرائع… إنه واحد من أفضل اﻷعمال في التاريخ العسكري”.
وأعاد له القيصر سيفه، ومكث في روسيا أسبوعين حتى شفيت جراحه، ثم أطلق سراحه ورجع إلى إسطنبول، ولم يرجع من جيشه الذي كان تعداده 48 ألفا إلا 12 ألفا فقط، أما الباقي فكانوا بين مفقود وشهيد.
واستقبله السلطان عبد الحميد الثاني ولقّبه بالغازي، وقرّبه حتى جعله وزير الحربية، ونال الغازي عثمان باشا، عدة أوسمة ونياشين عسكرية. وبقي على رأس عمله إلى يوم وفاته في 5 نيسان/ أبريل 1900. ودفن في المقبرة السلطانية بجوار السلطان محمد الفاتح رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.
في الذكرى العاشرة لوفاته، قامت الفرقة العسكرية السلطانية للخلافة بإنشاد نشيد نعي ومشية عسكرية خاصة في ذكراه، ما زالت تنشد إلى اليوم تخليدا لقتاله الشجاع في معركة بليفنا.
ترك برس